زعم ابن حزم أن [العود] لم يروه إلا زاذان عن البراء
السؤال: زعم ابن حزم أن [العود] لم يروه إلا زاذان عن البراء الإجابة: وزعم ابن حزم أن [العود] لم يروه إلا زاذان عن البراء وضعفه، وليس الأمر كما قاله، بل رواه غير زاذان عن البراء. وروى عن غير البراء مثل عدي بن ثابت وغيره. وقد جمع الدارقطني طرقه في مصنف مفرد، مع أن زاذان من الثقات، روى عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في [صحيحه] وغيره، قال يحيى بن معين: هو ثقة، وقال حميد بن هلال وقد سئل عنه فقال:هو ثقة، لا يسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة، وكان يتبع الكرابيسي، وإنما رماه من رماه بكثرة كلامه. وأما المنهال بن عمرو، فمن رجال البخاري. وحديث [عود الروح] قد رواه عن غير البراء أيضًا. وحديث زاذان مما اتفق السلف والخلف على روايته وتلقيه بالقبول. وأرواح المؤمنين في الجنة، وإن كانت مع ذلك قد تعاد إلى البدن، كما أنها تكون في البدن، ويعرج بها إلى السماء كما في حال النوم. أما كونها في الجنة، ففيه أحاديث عامة، وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء، واحتجوا بالأحاديث المأثورة العامة وأحاديث خاصة في النوم وغيره. فالأول مثل حديث الزهري المشهور الذي رواه مالك عن الزهري في [موطئه] وشعيب بن أبي حمزة وغيرهما، وقد رواه الإمام أحمد في [المسند] وغيره. قال الزهري: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك: أن كعب بن مالك الأنصاري وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم كان يحدث أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال"إنما نَسَمَة [أي: روح] المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده"، فأخبر أنه يعلق في شجر الجنة حتى يرجع إلى جسده، يعني في النشأة الآخرة. قال أبو عبد اللّه بن منده: ورواه يونس، والزبيدي، والأوزاعي، وابن إسحاق. وقال عمرو بن دينار، وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال... قال صالح بن كَيْسَان، وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، أنه بلغه أن كعبًا قال... رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. قلت: وفي الحديث المشهور حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو حاتم في [صحيحه] وقد رواه أيضًا الأئمة. قال "إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه. فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه. فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة: ما قِبَلِي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس، وقد دنت للغروب فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي؛ فيقولون: إنك ستفعل، أخبرنا عما نسألك عنه. فقال: عم تسألوني؟ فيقولون: ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تشهد عليه به؟ فيقول: أشهد أنه رسول اللّه، وأنه جاء بالحق من عند اللّه، فيقال: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء اللّه تعالى، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: ذلك مقعدك منها، وما أعد اللّه لك فيها، فيزداد غِبْطَةً وسرورًا، ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له: ذلك مقعدك منها، وما أعد اللّه لك فيها لو عصيت ربك، فيزداد غبطة وسرورًا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له فيه، ويعاد جسده كما بدئ، وتجعل نسمته في نسم الطيب، وهي طير تَعْلُق [أي: ترعى وتأكل] في شجر الجنة". وفي لفظ "وهو في طير يعلق في شجر الجنة". قال أبو هريرة: قال اللّه تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وفي لفظ" ثم يعاد الجسد إلى ما بدئ منه". وهذه الإعادة هي المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] ليست هي النشأة الثانية. ورواه الحاكم في [صحيحه] عن معمر، عن قتادة عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن المؤمن إذا احتضر أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضيًا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان؛ فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى إنهم ليناوله بعضهم بعضًا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض ! وكلما أتوا سماءً قالوا ذلك، حتى يأتوا به أرواح المؤمنين فلهم أفرح به من أحدكم بغائبه إذا قدم عليه، فيسألونه: ما فعل فلان؟ قال: فيقولون: دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال لهم: ما أتاكم؟! فإنه قد مات؛ يقولون:ذهب به إلى أُمه الهاوية. وأما الكافر فإن ملائكة العذاب تأتيه، فتقول: اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب اللّه وسخطه، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فينطلقون به إلى باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح !! كلما أتوا على أرض قالوا ذلك، حتى يأتوا به أرواح الكفار". قال الحاكم: تابعه هشام الدّسْتُوائي، عن قتادة. وقال همام بن يحيى: عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. والكل صحيح، وشاهدها حديث البراء بن عازب. وكذلك رواه الحافظ أبو نعيم من حديث القاسم بن الفضل الحذائي، كما رواه مَعْمَر. قال: ورواه أبو موسى وبُنْدَار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، مثله مرفوعًا. ومن أصحاب قتادة من رواه موقوفًا، ورواه همام عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، مرفوعًا نحوه. وقد روى هذا الحديث النسائي، والبزار في [مسنده] وأبو حاتم في [صحيحه]. وقد روى مسلم في [صحيحه] عن أبي هريرة قال"إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان فصعدا بها، فذكر من طيب ريحها وذكر المسك. قال: فيقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى اللّه عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق بها إلى ربه ثم يقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه، وذكر من نتنها وذكر لعنًا، فيقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض. قال: فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل". قال أبو هريرة: فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "رَيْطَة كانت عليه على أنفه هكذ" . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند النوم "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"، وفي الصحيح أيضًا: أنه كان يقول "اللهم أنت خلقت نفسي، وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، فإن أمسكتها فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". ففي هذه الأحاديث من صعود الروح إلى السماء، وعودها إلى البدن، ما بين أن صعودها نوع آخر، ليس مثل صعود البدن ونزوله. وروينا عن الحافظ أبي عبد اللّه محمد بن منده في كتاب[الروح والنفس]: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، ثنا عبد اللّه بن الحسن الحراني، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا موسى بن أيمن، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في تفسير هذه الآية: {"اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا" [الزمر:42]. قال: تلتقي أرواح الأحياء في المنام بأرواح الموتى ويتساءلون بينهم، فيمسك اللّه أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وروى الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم في[تفسيره]: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، ثنا الحسن، ثنا عامر، عن الفُرَات، ثنا أسباط عن السدى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} قال: يتوفاها في منامها. قال: فتلتقي روح الحي وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان. قال: فترجع روح الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجله في الدنيا. قال: وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس. وهذا أحد القولين وهو أن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] أريد بها أن من مات قبل ذلك لقي روح الحي. والقول الثاني وعليه الأكثرون أن كلا من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، وأما التي توفيت وفاة الموت فتلك قسم ثالث؛ وهي التي قدمها بقوله: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة؛ فإن اللّه قال: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، فذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها بالنوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا إرسال، ولا ذكر في الآية التقاء الموتى بالنيام. والتحقيق أن الآية تتناول النوعين؛ فإن اللّه ذكر توفيتين: توفي الموت، وتوفي النوم، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى. ومعلوم أنه يمسك كل ميتة، سواء ماتت في النوم أو قبل ذلك، ويرسل من لم تمت. وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يتناول ما ماتت في اليقظة وما ماتت في النوم، فلما ذكر التوفيتين ذكر أنه يمسكها في أحد التوفيتين ويرسلها في الأخرى، وهذا ظاهر اللفظ ومدلوله بلا تكلف. وما ذكر من التقاء أرواح النيام والموتي لا ينافي ما في الآية، وليس في لفظها دلالة عليه، لكن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يقتضي أنه يمسكها لا يرسلها كما يرسل النائمة، سواء توفاها في اليقظة أو في النوم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم" اللهم أنت خلقت نفسي، وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، فإن أمسكتها فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" فوصفها بأنها في حال توفي النوم إما ممسكة وإما مرسلة. وقال ابن أبي حاتم: ثنا أبي، ثنا عمر بن عثمان، ثنا بَقيَّة؛ ثنا صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر الحضرمي؛ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أعجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال ! فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الشيء؛ فلا تكون رؤياه شيئًا، فقال على بن أبي طالب: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن اللّه يقول: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فاللّه يتوفي الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهو الرؤيا الصادقة. وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فأخبرتها بالأباطيل وكذبت فيها، فعجب عمر من قوله. وذكر هذا أبو عبد اللّه محمد بن إسحاق بن منده في كتاب [الروح والنفس] وقال: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، ولفظه: قال على بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، يقول اللّه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} والأرواح يعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق، فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فما رأت من ذلك فهو الباطل. قال الإمام أبو عبد اللّه بن منده: وروى عن أبي الدرداء قال: روى ابن لَهِيعَة عن عثمان بن نعيم الرُّعَيْني، عن أبي عثمان الأصْبَحِي، عن أبي الدرداء قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها العَرْش قال: فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كان جُنُبًا لم يؤذن لها بالسجود. رواه زيد بن الحباب وغيره. وروى ابن منده حديث على وعمر رضي اللّه عنهما مرفوعًا، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، ثنا محمد بن شعيب، ثنا ابن عياش بن أبي إسماعيل، وأنا الحسن بن علي، أنا عبد الرحمن بن محمد، ثنا قتيبة والرازي، ثنا محمد بن حميد، ثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء الدوسي، ثنا الأزهر بن عبد اللّه الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه قال: لقي عمر بن الخطاب على بن أبي طالب فقال: يا أبا الحسن، ربما شهدت وغبنا، وربما شهدنا وغبت، ثلاثة أشياء أسألك عنهن، فهل عندك منهن علم؟ فقال على بن أبي طالب: وما هن؟ قال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرًا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرًا. فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول" إن الأرواح جنود مُجَنَّدَة، تلتقي في الهواء، فَتَشَامُّ، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" قال عمر: واحدة. قال عمر: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه، فبينما هو قد نسيه إذ ذكره. فقال: نعم، سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول "ما من القلوب قلب إلا وله سَحَابة كسحابة القمر، فبينما القمر يضىء إذ تجللته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء، وبينما القلب يتحدث إذ تجللته فنسي، إذ تجلت عنه فذكر". قال عمر: اثنتان. قال: والرجل يرى الرؤيا: فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب. فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد ينام فيمتلئ نومًا إلا عُرِج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي الرؤيا التي تكذب". فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهن؛ فالحمد للّه الذي أصبتهن قبل الموت. ورواه من وجه ثالث:أن ابن عباس سأل عنه عمر، فقال: حدثنا أحمد بن سليمان بن أيوب، ثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا إسماعيل بن عَيَّاش، عن ثعلبة بن مسلم الخَثْعَمِي، عن ابن أبي طلحة القرشي؛ أن ابن عباس رضي اللّه عنه قال لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يا أمير المؤمنين، أشياء أسألك عنها؟ قال: سل عما شئت؛ فقال: يا أمير المؤمنين، مم يذكر الرجل، ومم ينسى؟ ومم تصدق الرؤيا، ومم تكذب؟ فقال له:عمر أما قولك: مم يذكر الرجل ومم ينسى؟ فإن على القلب طَخَاء [الطَّخَاء: ثِقَلٌ وغَشْى، وأصله: الظُّلْمة والغَيْم]. مثل طخاء القمر، فإذا تغشت القلب نسي ابن آدم، فإذا تجلت عن القلب ذكر ما كان ينسى، وأما مم تصدق الرؤيا ومم تكذب؟ فإن اللّه يقول: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي تصدق، وما كان منها دون ملكوت السماء فهي التي تكذب. قلت: وفي هذين الطريقين ذكر أن التي تكذب ما لم يكمل وصولها إلى العلو. وفي الأول ذكر أن ذلك يكون مما يحصل بعد رجوعها. وكلا الأمرين ممكن؛ فإن الحكم يختلف لفوات شرطه، أو وجود مانعه عن ذلك، قال عكرمة ومجاهد: إذا نام الإنسان فإن له سببا تجري فيه الروح، وأصله في الجسد، فتبلغ حيث شاء اللّه، فما دام ذاهبًا فإن الإنسان نائم، فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان، فكان بمنزلة شعاع هو ساقط بالأرض وأصله متصل بالشمس. قال ابن منده: وأخبرت عن عبد اللّه بن عبد الرحمن السمرقندي، عن على بن يزيد السمرقندي وكان من أهل العلم والأدب وله بصر بالطب والتعبيرقال: إن الأرواح تمتد من مَنْخِر الإنسان، ومراكبها وأصلها في بدن الإنسان، فلو خرج الروح لمات، كما أن السراج لو فَرَّقْتَ بينها وبين الفتيلة لطفئت. ألا ترى أن تركب النار في الفتيلة، وضوءها وشعاعها ملأ البيت، فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه حتى تأتي السماء، وتَجُول في البلدان، وتلتقي مع أرواح الموتى. فإذا رآها الملك الموكل بأرواح العباد أراه ما أحب أن يراه وكان المرء في اليقظة عاقلًا ذكيًا صدوقًا لا يلتفت في اليقظة إلى شيء من الباطل رجع إليه روحه، فأدى إلى قلبه الصدق بما أراه اللّه عز وجل على حسب صدقه. وإن كان خفيفًا نَزِيقًا [أي: خفيفًا]. يحب الباطل والنظر إليه، فإذا نام وأراه اللّه أمرًا من خير أو شر رجع روحه، فحيثما رأى شيئًا من مخاريق الشيطان أو باطلًا وقف عليه كما يقف في يقظته، وكذلك يؤدي إلى قلبه فلا يعقل ما رأى؛ لأنه خلط الحق بالباطل، فلا يمكن معبر يعبر له، وقد اختلط الحق بالباطل. قال الإمام ابن منده: ومما يشهد لهذا الكلام ما ذكرناه عن عمر وعلى وأبي الدرداء رضي اللّه عنهم. قلت: وخرج ابن قتيبة في كتاب [تعبير الرؤيا]، قال: حدثني حسين بن حسن المروزي [حسين بن الحسن بن حرب السلمي بن عبد الله المروزي، نزيل مكة. روى عن ابن المبارك ويزيد بن زريع وابن علية وغيرهم، وروى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وثقه ابن حبان وغير واحد. مات سنة 46هـ]، أخبرنا ابن المبارك عبد اللّه، ثنا المبارك عن الحسن أنه قال: أنبئت أن العبد إذا نام وهو ساجد يقول اللّه تبارك وتعالى "انظروا إلى عبدي، روحه عندي، وجسده في طاعتي". وإذا كانت الروح تعرج إلى السماء مع أنها في البدن، علم أنه ليس عروجها من جنس عروج البدن الذي يمتنع هذا فيه. وعروج الملائكة ونزولها من جنس عروج الروح ونزولها، لا من جنس عروج البدن ونزوله. وصعود الرب عز وجل فوق هذا كله وأجل من هذا كله؛ فإنه تعالى أبعد عن مماثلة كل مخلوق من مماثلة مخلوق لمخلوق. وإذا قيل: الصعود والنزول والمجيء والإتيان أنواع جنس الحركة، قيل: والحركة أيضًا أصناف مختلفة، فليست حركة الروح كحركة البدن، ولا حركة الملائكة كحركة البدن، والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز، ويراد بها أمور أخرى، كما يقوله كثير من الطبائعية والفلاسفة: منها الحركة في الكم كحركة النمو، والحركة في الكيف كحركة الإنسان من جهل إلى علم، وحركة اللون أو الثياب من سواد إلى بياض، والحركة في الأيْن كالحركة تكون بالأجسام النامية من النبات والحيوان في النمو والزيادة، أو في الذبول والنقصان، وليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز. ومن قال: إن الجواهر المفردة تنتقل، فقوله غلط، كما هو مبسوط في موضعه. وكذلك الأجسام تنتقل ألوانها وطعومها وروائحها، فيسود الجسم بعد ابيضاضه، ويحلو بعد مرارته، بعد أن لم يكن كذلك. وهذه حركات واستحالات وانتقالات، وإن لم يكن في ذلك انتقال جسم من حيز إلى حيز.