• ×
السبت 23 نوفمبر 2024 | 05-28-2019

خادم الطيور يتكلم

0
0
632
 في غرفة جلوسي نافذة عريضة، وأمامها شجرة وارفة بها بعض أعشاش الطيور، وحيث إنني أنشد الأجر، مقتدياً ومتأثراً بالحديث الشريف القائل: في كل كبد رطبة أجر، لهذا وضعت على حافة النافذة ماعوناً أملؤه بالماء، وأنثر نحوه الحبوب المختلفة، وأستمتع بمراقبة العصافير والقماري، وهي تتهافت عليها، ولاحظت أن قويها يطرد ضعيفها، ويستأثر بالماء والحبوب قبلها، وعرفت أن عالم الطير لا يختلف كثيراً عن عالم الإنسان، حاولت أكثر من مرّة أن أتدخل، غير أنني عدلت عن ذلك خشية مني بإفزاعها فتركتها، على مبدأ: أن اترك الخلق للخالق، أو البقاء للأقوى، مع الأسف.

ومع ذلك لم يعدم الضعفاء الشرب والأكل، فهؤلاء تأتي بعد أن يشرب ويشبع الأقوياء وتطير، ولاحظت أيضاً أنه بعد أن تنفد الحبوب، تأخذ بعض الطيور بالنقر والفرفرة بأجنحتها على زجاج النافذة، وكأنها تريد أن تنبهني أن لا شيء أمامها، وأصبحت مهنتي التي أتلذذ بها: أن أكون خادماً للطيور.
وقبل أكثر من شهر كنت أتفرّج على برنامج وثائقي في التلفزيون يجري في منطقة يقال لها (غوميرا) في جزر الكناري، ووجدت أن المزارعين هناك يتكلمون مع بعضهم بالصفير الذي يشبه زقزقة العصافير بلغة سموها (سيلبوا).

ويقول في هذا الصدد صبي صغير للمذيع، إن في إمكانك أن تقول أي شيء بواسطة الصفير، والقاعدة سهلة، فكل حرف له صوت صفيري مرادف، وتتدفق الكلمات بين الشفاه سريعة سلسة، وتعلو نبراتها وتهبط كأصوات الطيور.

ويؤكد المذيع بعد ذلك قائلاً: كما أن في الكلام العادي بين الناس هناك لهجة ولكنة، كذلك هنا في (غوميرا)، فلكل قرية لكنة مختلفة عن الأخرى، ولكن تجمعهم كلهم لغة (سيلبوا) بالصفير المتعارف عليه، وهم يعلّمون أطفالهم منذ المهد لغة التصفير إلى جانب لغة الكلام المعتادة، وتيقنت بعدها أن للطيور أيضاً لغاتها التي تتفاهم بها بين بعضها، وسبحان الذي علم سليمان لغة الطير، لهذا خاطب الهدهد سليمان قائلاً: جئتك من سبأ بنبأ يقين، صدق الله العظيم.

وهناك أهزوجة لشاعر مجهول يقول فيها:
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة
أهدت إليه جراداً كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلة
إن الهدايا على قدر مهديها
لو كان يهدى للإنسان قيمته
لكان قيمتك الدنيا وما فيها
ولي الآن أكثر من شهر وأنا أستمع بالساعات، وأسجل وأراجع أصوات الطيور التي حول نافذتي محاولاً فك شفرة لغتها، ولن أيأس مهما كان، حتى لو أذّنتُ كالدّيك.