نعمة الشباب هبة من الله؛ إنه ربيع العمر، وزهرة الحياة، وفَجْر الزمان، فيه اكتمال النمو وتمام الخَلْق، وقوة الحواس، وتوقُّد الهمة، واشتعال الحماس؛ وكان المفروض على الشاب السميع البصير المدرك النابه أن يجعل هذا الموسم ميداناً لكتابة تاريخه المشرق من طلب العلم النافع والعمل الجاد وزرع الفضائل واقتناص فرص النجاح وتثقيف العقل وصقل الموهبة بكل مفيد مثمر؛ فكل ناجح في الحياة إنما بنى مجده في شبابه، وعمّر تاريخه المشرق في أول عمره، ولكن للأسف؛ الكثيرُ من الشباب فرطوا في الفرصة السانحة والنعمة السابغة؛ فقضوا ساعات الفتوة لهواً ولعباً وعبثاً، ما بين متعة زائلة زائفة وهواية مسليّة ملهية وأمانيّ خدّاعة، فلما فاتهم قطار العُمْر، وبدأت الشيخوخة تفتك بأجسامهم، ودلف الهِرَم يحاسبهم على ما فرطوا، وصاح الشيب موبخاً ومعاتباً بعدما كلّت الجوارح وضَعُف البدن، كما قال الواحد الأحد جل اسمه (ومَنْ نُعمِّره نُنكسه في الخلق أفلا يعقلون).. بعد هذا رجع الكثير منهم يلوم نفسه على ما فعل بشبابه، ويتحسر على ما ضاع في صباه، وليت كبار السن من العلماء والحكماء أهل الحصافة والتجربة يقفون وقفة صادقة مع كل شاب غر متهور ناصحين ومحذرين ومربين.
إن أمة الإسلام لم تفجع في تاريخها الطويل بمثل ما فُجعت به في شبابها؛ فالشباب هو عدة المستقبل، وأمل الغد، وجنود الفداء، وأبطال التضحية في ميدان العمل والمجد والنصر.. فإذا عقّوا الرسالة، وتنكّروا للمهمة، ونسوا الواجب، فلا حول ولا قوة إلا بالله. أما كان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - شباباً، شباباً – والله - مكتهلين في شبابهم، غضضة عن الشر أعينهم، ثقيلة إلى الباطل أرجلهم، سريعة إلى القمم هممهم، غزيرة عند الذكر دموعهم، رخيصة في سبيل الله دماؤهم، غالية في سوق العمل أوقاتهم، ليلهم سهر مع المثاني، ونهارهم تفانٍ للمنهج الربّاني.. شباب محمد - صلى الله عليه وسلم - شامة في جبين الدهر، ووسام شرف على صدر الأيام، وتاج فخر على رأس الزمن؛ توزّعوا – والله - المهمّات لما أشرقت عليهم شمس الرسالة؛ فمنهم من نذر نفسه للقرآن حفظاً وتلاوة وتعليماً وبلاغاً، فذكرهم الله في الملأ الأعلى، وخشعت لأصواتهم الجبال، وأنصتت لتلاوتهم الكائنات، ومنهم من لبس سلاحه ينصر الملّة ويذب عن العقيدة ويدحر الباطل ويدك معالم الزّور؛ فسالت تالله دماؤهم أزكى من المسك، وطارت أرواحهم إلى الفردوس الأعلى أسرع من البرق، فأحدهم يهتز لموته عرش الرحمن، والثاني تغسله الملائكة بماء المزن، والآخر يكلمه الله بلا ترجمان، ومنهم من وجد نفسه في السخاء والبذل فجمع المال من حلال وأنفقه في حلال، فكان الواحد منهم - إي وربي - يؤثر بطعامه المساكين وبلباسه البائسين وبماله المحرومين، ومنهم من فُتح عليه في العلم النافع فأسهر ليله في التحصيل وأذاب جسمه في حفظ النصوص وفهمها وتعليمها فبلغوا - وأيم الله - العِلْم الموروث عن معلِّم الخير صلى الله عليه وسلم. ثم لم يكتفِ هذا الشباب المحمدي المؤمن بجزيرة العرب بل عبروا البحار وامتطوا القفار، وطووا الليل والنهار يفتحون الأقاليم ويَهْدُون الأمم، ويشرقون العالم بفَجْر جديد من الإيمان والسلام والعدل والحرية.. فرجت بهم البقاع، واستقبلهم الأصقاع، ففريق منهم وصل الأندلس يؤذن ويصلي، وطائفة نزلت الهند تدرس وتؤلف، وجماعة ساحت في إفريقيا تدعو وتخطب، ونفر وصلوا سيحون وجيحون يجاهدون ويفتحون..
ثم خلف بعد الشباب المحمدي المؤمن الصادق القوي شباب هزيل في هممه، ساقط في اهتماماته، الكثير منهم ليلهم سهر وضياع، ونهارهم نوم وغفلة، يعلو ضحكهم على نكتة سخيفة، كأنهم في مهرجان نصر، ومناسبة فوز كاسح، هجروا الكتاب، وعافوا القراءة، وعشقوا مجالس الاستراحات ونوادي القيل والقال، ليس عندهم وقت لحفظ آية، ولا فَهْم حديث، ولا تسجيل معلومة، ولا مناقشة قضية، ولا فكُّر في عِبْرة، ولا سماع موعظة، يسهرون إلى الفجر في تقليب القنوات ومطاردة المسلسلات، ومشاهدة التمثيليات، والعيش في عالم الخيال والمغامرات، سكروا بكأس الوهم، وتخدروا ببنج الغرور، إن صلّوا نقروا الصلاة، وإن قرؤوا ففي مجلات التسلية وصحف الغثاء ومواقع النت الجوفاء، ليس لهم اتصال وثيق ولا حب عميق بالمساجد، وما عندهم صحبة وافية مع المصحف، لا تجدهم في جامعة منكبين على النظريات المفيدة، ولا في ميادين العمل مثابرين على إنجاز المهمة وأداء الواجب، ولا في مشاريع الخير مكافحين لصالح الأمة، ولا في دروس العِلْم والمعرفة محصلين لشرف الدين والآخرة، بل أهل هيام وغرام، وآهات وزفرات، أُصيبوا بالقلق وعاشوا الهمّ وابتُلوا بالحزن، رماهم الفراغ بالكآبة فلا تلوح على وجوههم أنوار الطاعة، ولا تشرق على محياهم شمس العزائم، ولا تتوقد في نفوسهم نار الغيرة ولا الحمية، صاروا عبئاً على الأمة في أكسدة الهواء، وشرب الماء، وإنهاء الغذاء وإتلاف البنية التحتية؛ فرحماك ربي!