• ×

في زمن النبوة

في زمن النبوة
بواسطة نهلة الصعيدي 05-22-2018 10:27 مساءً 878 زيارات
 الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: الْمَعْصِيَةُ وَالتَّقْصِيرُ، وَالذَّنْبُ وَالتَّفْرِيطُ، قَدَرٌ مَعَ كُلِّ بَشَرٍ، قَلَّ ذَلِكَ الْخَطَأُ أَمْ كَثُرَ، صَغُرَ أَمْ كَبُرَ: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ".

وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الرَّحِيمِ: أَنْ فَتَحَ لِعِبَادِهِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ بَعْدَ الْمَعَاصِي وَالْأَوْزَارِ؛ لِذَا فَإِنَّ التَّذْكِيرَ بِالتَّوْبَةِ حَدِيثٌ يَحْتَاجُهُ كُلُّ أَحَدٍ.

فَجَمِيلٌ أَنْ نَتَوَاصَى وَنَتَذَاكَرَ بِهَا، بَيْنَ كُلِّ حِينٍ وَحِينٍ، وَلَكِنْ أَجْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْلَغُ فِي التَّذْكِيرِ، أَنْ نَرَى التَّوْبَةَ رِجَالًا، وَالنَّدَمَ فِعَالًا.


نَرَى ذَلِكَ فِي صُورَةٍ عَظِيمَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، مِنْ أُنَاسٍ أَزَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمُ الْأَمَّارَةُ نَحْوَ الْحَرَامِ أَزًّا، فَعَاقَرُوا الْمُنْكَرَاتِ، وَانْغَمَسُوا فِي الشَّهَوَاتِ، وَلَكِنْ بَعْدَهَا ذَكَرُوا اللَّهَ -تَعَالَى- فَأَسِفُوا وَنَدِمُوا، وَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 135].


نَقِفُ مَعَ مَشَاهِدَ مِنْ أَخْبَارِ خَيْرِ جِيلٍ، مَعَ الْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُهُمْ بَعْدَ ارْتِكَابِ الذَّنْبِ وَاقْتِرَافِ الْمَعْصِيَةِ؟


عِبَادَ اللَّهِ: هَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ جَلَسَ فِي مَسْجِدِهِ فِي حَلْقَةٍ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَالْآذَانُ تَسْمَعُ لِحَدِيثِهِ الشَّيِّقِ الْعَذْبِ، وَالْأَعْنَاقُ مُشْرَئِبَّهٌ نَحْوَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ يُنَادِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ فِي أَوْجِ شَبَابِهِ، قَصِيرُ الْقَامَةِ، مَفْتُولُ السَّاعِدَيْنِ، مِنْ بَنِي أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ، فَتَقَدَّمَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَامَاتُ النَّدَمِ تَعْلُو قَسَمَاتِ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَطَهِّرْنِي!

فَمَاذَا فَعَلَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ هَلْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَهُ؟ هَلْ شَتَمَهُ وَعَنَّفَهُ وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ؟ هَلْ أَمَرَ بِهِ فَأُخِذَ حَتَّى لَا يَفِرَّ؟

كَلَّا! كَلَّا!

بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، وَالْتَفَتَ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى.


فَلَمْ يَكُفَّ الرَّجُلُ، وَحُرْقَةُ الذَّنْبِ تَلْسَعُهُ، حَتَّى جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ؛ فَطَهِّرْنِي!

فَيُعْرِضُ عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى، فَيَبْتَدِرُ الرَّجُلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً ثَالِثَةً، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ؛ فَطَهِّرْنِي!

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّؤُوفُ بِأَصْحَابِهِ الرَّحِيمُ بِهِمْ: "وَيْحَكَ! ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ".

فَذَهَبَ الرَّجُلُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ عَادَ وَسِيَاطُ الذَّنْبِ تَحْرِقُ فُؤَادَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ؛ فَطَهِّرْنِي!

حَتَّى إِذَا رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَرْجِعُ عَمَّا قَالَ، دَعَاهُ فَسَأَلَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلَهُ: هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟

قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ حَلَالًا.

فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟

قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي!

ثُمَّ دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْمَهُ فَسَأَلَهُمْ: أَبِهِ جُنُونٌ؟ أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ شَرِبَ.

كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى يَجِدَ لَهُ مِنَ الْعُذْرِ مَا يَدْرَأُ بِهِ الْحَدَّ.


فَلَمْ يَكُنْ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرِيصًا عَلَى مُعَاقَبَةِ النَّاسِ، وَالْبَطْشِ بِهِمْ.

بَلْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].

حَتَّى إِذَا أُعْيَتِ السُّبُلُ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ، وَاسْتَبَانَ الْحَقُّ، وَحَصْحَصَ الْيَقِينُ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ عَلَيْهِ.

ثُمَّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ: "حَدُّ الرَّجْمِ" الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى الْمَوْتِ.

فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَهُمْ مَا بَيْنَ مَادِحٍ وَقَادِحٍ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَقَالَ: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ".

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَتَخَضْخَضُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ" أَيْ يَسْبَحُ [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ].

وَإِنْ تَعْجَبْ مِنْ خَبَرِ مَاعِزٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: فَأَعْجَبُ مِنْهُ خَبَرُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ، الَّتِي جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْحَيَاءُ يَلُفُّهَا.

جَاءَتْ إِلَيْهِ بِخُطُوَاتٍ مُتَّئِدَةٍ، مَهْمُومَةً مَغْمُوسَةً مَكْسُوفَةً!

جَاءَتْ لِتُقِرَّ عَلَى نَفْسِهَا بِالزِّنَا، وَتَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُطَهِّرَهَا! وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا التَّطْهِيرَ لَيْسَ كَلَامًا قَاسِيًا تُعَنَّفُ بِهِ، وَلَا بِضْعَ سِيَاطٍ تَعْلُو جَسَدَهَا ثُمَّ يَنْتَهِي الْأَمْرُ!

لَقَدْ عَلِمَتْ وَهِيَ تَتَخَيَّلُ خَبَرَ مَاعِزٍ أَنَّهُ حِجَارَةٌ تُمَزِّقُ جَسَدَهَا، وَتَنْهِي حَيَاتَهَا!

فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَالَهَا زَجَرَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْهَا!
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
أكثر